الطاغية حين يكون شاعراً


معمر القذافي رافعاً قبضته (ا ف ب).jpgقراء رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام» أو مشاهدو الفيلم الذي انجزه المخرج فرانسيس كوبولا عن الرواية بعنوان «القيامة الآن» (أو «ابوكاليبس ناو») يذكرون شخصية قام بأدائها في الفيلم عبقري التمثيل السينمائي الراحل مارلون براندو، وهي شخصية ضابط في الجيش هو العقيد وولتر كيرتز، توغل عميقاً في الغابة (وتختلف الرواية عن الفيلم، فعالم الرواية في الأصل كان قارة أفريقيا ونقله المخرج ليكون في آسيا بهدف تطبيق القصة على حرب فيتنام) وانقطعت أخبار مكانه عن القوات الخاصة التي ينتمي إليها عدا معلومات تشير الى ما يرتكبه من أعمال قتل، فتقرر إرسال ضابط للعثور عليه وقتله لأن وجوده في الحالة الجنونية التي تحول اليها صار خطراً على حياة الناس. وبعد رحلة تكشف عن معنى العنوان الذي حملته الرواية والآخر الذي حمله الفيلم، يصل الضابط الشاب الى مكان هذا العقيد المعزول حيث تحيط به الغابات، فوجده جالساً في محل إقامته، يمارس هوايته في قراءة شعر إليوت، ومن حوله تتناثر أعداد لا تحصى من الجماجم، لأناس قام بقتلهم على أيدي عصابات تعمل لحسابه، بعد ان انقطعت الأسباب بينه وبين الجيش الذي ينتمي إليه، فهو قتل لمجرد القتل، ولمتعة القتل.
ومشهد العقيد كيرتز محاطاً بالجماجم يقرأ الشعر ويكتبه أحياناً، لا بد من ان يستدعي الى الذهن عقيداً آخر يحكم ليبيا، اهتم هو أيضاً بكتابة الشعر، وتأليف الكتب، في حين كان يرسل مندوبيه من محترفي القتل، الى مختلف عواصم العالم، لاغتيال المعارضين الذين تمت تصفيتهم في لندن وباريس وروما وميلانو وأثينا وبرلين ولوس انجليس والقاهرة وبيروت بينما هو جالس في خيمته في باب العزيزية منشغلاً بكتابة الشعر انتظاراً للأخبار السعيدة بسقوط هؤلاء الضحايا، أو يرسل مندوباً آخر مثل المقرحي يطيح طائرة مدنية يموت 270 من ضحاياها
وهو ما زال يكتب الشعر، ومرة اخرى يحدث الأمر نفسه مع طائرة في رحلة محلية، تسقط قريباً من محل إقامته في باب العزيزية فيشاهدها وهي تحترق بفضل صاروخ من إحدى طائراته الحربية ويسقط 157 شهيداً غالبيتهم من أبناء وطنه ويعود سعيداً لكتابة الشعر، ويلقي في اليوم التالي خطاباً يقول فيه للغرب هذه طائرة ليبية سقطت في ذكرى سقوط طائرة البانام، ونحن بهذه الطريقة سددنا الحساب وواحدة بواحدة، لأنه أعطى لهذه الطائرة رقماً يشبه رقم رحلة لوكيربي وأسقطها في التاريخ نفسه الذي سقطت فيه تلك الطائرة، في الذكرى الثامنة او التاسعة. ويرسل في مرة رابعة أو خامسة مندوباً يقود كتيبة تبيد في ساعتين 1270 إنساناً من مساجين سجن بوسليم أثناء خروجهم للاستراحة في ساحة السجن، وما زال العقيد جالساً في خيمته يكتب الشعر وينتظر أخبار المجزرة، وفي مرة سابعة أو ثامنة يرسل مندوباً يقود أفراداً من كتيبة الحراسة، بوجوه ملثمة، يستفزون جمهور مباراة رياضية ويطلقون الرصاص على أناس جالسين يشاهدون مباراة لكرة القدم ويسقط العشرات لأن مشاهدة كرة القدم، في حد ذاتها جريمة تتناقض مع «الكتاب الأخضر» الذي يدين المشاهدة ويقوم صراحة بتجريمها لأن الرياضة في رأي الكتاب يجب أن تقوم على المشاركة بدلاً من المشاهدة.
وينضب الكلام لكن سجل الجرائم التي ارتكبها نظام الأخ العقيد صاحب «المنوعات الغنائية» كما يسميها التلفزيون الليبي، لا ينتهي، كذلك لا ينتهي سيل القصائد الغنائية التي يعطيها لنجوم الطرب في الوطن العربي من أمثال عبدالهادي بالخياط وميادة الحناوي وأصالة نصري وهاني شاكر، وهي قصائد كتبت بالعامية الليبية، وبأسلوب بالغ الركاكة والافتعال، وقد رأيت بعض هذه القصائد بين ايدي ملحنين من أمثال الصديق علي ماهر والصديق أبو عجيلة محمد، وقد استهل مسيرة التلحين الأخ علي ماهر بقصيدة وطنية يقول مطلعها: «وطني الكبير أراك تصرخ في الصباح والمساء».
وهو تعبير صار ينطبق على الوطن الصغير ليبيا الذي صار يصرخ في الصباح والمساء بسبب قصف بوارج وطائرات ودبابات القذافي ضد شعبه، وهو دليل أكيد على صلة شعر العقيد بالواقع وقدرة هذا الشعر على أن يكون شعر رصد للواقع إن لم يكن استشرافاً لهذا الواقع ونبوءة بأحداثه، ثم انتقل الأخ القائد بشعره من التعبير عن المشاعر الوطنية الى التعبير عن الوله والغرام، وهو غرام حقيقي وحميمي لأنه يتعلق بواحدة من حارساته، وقد وجه إليها الخطاب في هذه الأغنية قائلاً لها انه أحضرها لكي تحرسه فكيف ترضى بأن تقتله بفاتك السلاح القادم من عينيها، وهو كلام يؤكد قدرة الأخ القائد على التحاور مع نصوص الأدب العربي واستخدام التناص كعامل أساسي في شعره، ومثال ذلك القصيدة التي تستحضر عملاً لواحد من آباء الحركة الأدبية الحديثة هو توفيق الحكيم وروايته «رصاصة في القلب»، وأغنية ثالثة مقتبسة من السيرة الذاتية كما يفعل كبار الشعراء الذين يحيلون مشاهد من حياتهم الى شعر، قائلاً في هذه القصيدة إنه انحدر من عائلة من الرعاة وأن أمه راعية وأخته راعية وإخوته ووالده جميعهم رعاة، وفي هذه الأغنية لم يكتف القائد الشاعر بالتناص وإنما سطا على كل كلمات الأغنية من أغنية فولكلورية لبنانية تحمل المعاني والكلمات نفسها، مع ذلك نقول ليته بقي في تلك البيئة التي يحبها ولم ينطلق في تلك الليلة البعيدة من عام 1969 الى إذاعة بنغازي ليقول لنا: إليكم هذا البيان الذي يبشر بسقوط عصر الملكيات وبداية العصر الجديد الذي بدأ بالجمهورية وانتهى بعصر الجماهيريات العظمى.
وهناك أغان أخرى كثيرة أنشأ شركة للإنفاق عليها ومدينة إعلامية صغيرة لإنتاجها اسمها مركز «ألوان»، وتم رصد الموازنات الضخمة لإنتاج هذا الكلام الركيك الساذج في أشرطة تقدم للجمهور وتذاع في الإذاعات المسموعة والمرئية. هذه الأغاني يقوم بتأليفها وإعطائها لمطربي العالم العربي، وأحياناً تصرف النقود وتبذل الجهود ليغني الأغنية الواحدة اكثر من مطرب ويقوم بتلحينها اكثر من ملحن، وحبذا لو تنوعت أوطان الملحنين والمطربين، لضمان إرضاء ذوق المؤلف وإدخال السرور الى مزاجه، وهو مزاج يحتاج الى كمّ هائل من الأناشيد والمنشدين حتى يهدأ ويصفو بعد ان أثارته كل هذه المذابح والمجازر التي يقوم بها للمعارضين والمتآمرين والعملاء، وقد صار ينعتهم بعد انطلاق الثورة ضده بالجرذان والقطط وأهل الدنس والرجس.
السؤال هنا: هل يمكن حقاً طاغية ابتلاه الله بأمراض السايكوباتيك أن يكون مبدعاً، والإجابة التي تقدمها لنا كتب علم النفس هي: نعم، يمكن بالفعل أن تكون للقائد السايكوباتيكي علاقة بالإبداع، ليس بالضرورة إبداعاً متميزاً، ولكنه قادر على أن يقدم إنتاجاً أدبياً أو فنياً متوسط القيمة إذا شاء، وليس غريباً أن يكون الدوتشي الإيطالي موسوليني صاحب موهبة في الكتابة الصحافية، أوصلته الى ان يكون رئيس تحرير لصحيفة يكتب لها الافتتاحيات الحماسية التي صنعت له شعبية بين الناس، كما لم يكن غريباً ان يكون هتلر مؤلفاً لكتاب سيرته الذاتية الذي سماه «كفاحي» قبل ان يعتلي سدة الرايخ الثالث، كما لم يكن كذباً ما يشيعه أنصار صدام حسين من انه مؤلف روايات تاريخية اصدرها باسم مستعار. ومعروف ان الأخ العقيد، بجوار كتابه الأخضر، الذي كان مجرد تلفيق وترقيع لمقولات جمعها كما يفعل حاطب ليل من الشرق والغرب، وألقاها أمام الشعب الليبي لتكون دستور حياة ودليلها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن لا يعجبه فليشرب، كما قال ابنه، من البحر الأبيض المتوسط. أقول إنه بجوار هذا الكتاب البائس، الذي جلب بؤساً ودماراً لا مثيل لهما للبلاد والعباد، كتب أيضاً قصتين قصيرتين اعتبرتهما شخصياً كما اعتبرهما غيري من الأدباء وثيقتين أدبيتين نفسيتين تصلحان لتفسير جوانب من شخصية الكاتب.
نعم، هناك في ذهن الطاغية مساحة صغيرة للإبداع، لكنها مساحة غير قابلة للاتساع والتمدد، لأن موقعها في الدماغ تحاصره كميات هائلة من التشوهات تمنعه من النمو والتطور، وهي تلك التشوهات التي تمثل خصائص أساسية في المريض السايكوباتي تعوقه عن التعامل تعاملاً سوياً وطبيعياً مع العالم الذي حوله أو الواقع الذي يعيش فيه، وتكاد تقطع الأسباب والروابط التي تربطه برفاقه في الإنسانية. إحدى هذه الخصائص انه إنسان لا حس له، ولا يشعر بما يشعر به بقية الناس من تعاطف وتراحم، فهو يكاد يكون إنساناً بلا مشاعر، لا يملك ما نسميه ضميراً، وما نتوقع وجوده لدى رفاقنا في الإنسانية، كما لا تراوده إطلاقاً أحاسيس الندم، بل هو لا يملك أية قدرة على مثل هذا الندم، ولا أي إحساس بالخجل لما يمكن ان يقترفه من آثام أو مظالم ضد الآخرين، ولهذا فهو لا يتعلم أية دروس من تجاربه السابقة أو من أخطائه وسيئات أعماله، والمريض السايكوباتي يستمد المتعة والفرح المرضي من إلحاق الأذى بالآخرين، وعندما يصل المريض السايكوباتي (وله بعض المهارات التآمرية التي تتيح له ذلك مع قوة دافعة تسوقه لامتلاك السلطة والقوة والسيطرة) الى السلطة فهو لا بد من ان يتحول بسرعة الى طاغية، ولن يلبث مدة في الحكم حتى يخترع الأسباب لإعلان الحرب، لأن مثل هذه الحرب تعطيه رخصة للقتل وارتكاب المجازر من دون حسيب ولا رقيب ولا عقاب، وتمنحه مثل هذه الحرب فرصة عظيمة لإرضاء نهمه المجنون لإيقاع اكبر قدر من الأذى وأضخم عدد من الكوارث، مستمداً اكبر قدر من المتعة المريضة مما يسيل أمام عينيه من أنهار الدم ومما يراه من جبال الجماجم البشرية.
الطاغية السايكوباتي لا يرى في مرايا الأرض والسماء، إلا ذاته المتضخمة وأناه الطاغية المتورمة، بما يترتب عنه إلغاء وإقصاء وإزالة وإبعاد أي وجود لأي كيان آخر غيره، ساعياً الى محو كل الأسماء إلا اسمه، وتحطيم كل التماثيل إلا تمثاله، وإطفاء كل النجوم إلا نجمه... وفي هذا الإطار لم يكن غريباً ان يرفع الأخ شعاراً في دولته الجماهيرية: أن لا نجومية في المجتمع الجماهيري، ويصبح هذا الشعار بمثابة القانون بل ينشئ لتطبيقه إدارة في جهاز الاستخبارات، بحيث لا اسم يظهر حتى للاعب كرة أثناء نقل المباريات ولا يذكر غير الرقم على الفانلة التي يرتديها، كما لا يظهر اسم لأي مذيع أو مذيعة ولا اسم لمطرب ولا اسم لمسؤول حكومي ولا ذكر في الأخبار الليبية منشورة أو مذاعة، إلا لصفة المسؤول، ولا وجود للقاء في صحيفة أو إذاعة أو تلفاز لكاتب أو فنان أو رياضي إلا إذا جاء اضطراراً، وحدث خطفاً ولا احتمال لتكراره قبل أعوام.
من نافل القول الحديث عن التقلب من موقف الى آخر لدى المريض السايكوباتي، لأن لا وجود لثبات أو تناسب أو انتظام في سلوكه أو حديثه ولا نسق يسير عليه، ولهذا يصفون رجلاً مثل العقيد في الإعلام العالمي بأنه Unpredictable، أي لا قدرة لأحد على أن يتنبأ بما سيقدم عليه، فهو يقول اليوم شيئاً ويقول في الغد شيئاً مخالفاً له. وملازماً لهذا التقلب والارتباك في الآراء والأفكار والسلوك يأتي الكذب، فالمريض السايكوباتي يمارس الكذب من دون ان تطرف له عين، ويمارسه مع حركة الشهيق والزفير تماماً بمثل ما يتنفس، ويحيا حياته بلا مبادئ ولا مثل على رغم انه يمكن أن يقول غير ذلك، أو يجعل من هذه المبادئ شعارات تقدم له غطاء لارتكاب جرائم القتل، كما فعل صدام وما فعل القذافي من بعده، فأهلاً بقومية المعركة إذا كانت تبيح إرسال الليبيين الى الموت في النبطية والدامور ومرجعيون (في لبنان)، ولكن اين القومية في إرسال آلاف الليبيين ليموتوا دفاعاً عن حاكم مجنون مثل عيدي أمين في اوغندا، أو دفاعاً عن طاغية مثل تشاوشيسكو، أو عن مجرم حرب مثل ميلوشيفيتش، وكان صديقي الكاتب المعروف مطاع صفدي، يبدي استغرابه من جنون الإجرام للحاكم الليبي في لبنان، عندما كان يحرص على ان يمول كل الأطراف المتحاربة بالمال والسلاح، لا لشيء ولا لهدف إلا لكي تتواصل الحرب، وهو ما فعله بامتياز في السودان، ولم تكن حرب الجنوب لتكلف مليوني قتيل إلا بعونه ومؤازرته للطرفين سلاحاً ومالاً، وزد على ذلك الأطراف المتحاربة في دارفور، فالجنجويد أو راكبو جياد الجن ليسوا إلا من أجناده وأعوانه، وإنصافاً للرجل لا بد من القول انه كان عادلاً في توزيع هداياه الكارثية الإجرامية على العالم، فقد تجاوز بهذه الهدايا بلاده وبقية أقطار العالم العربي، وكانت تشاد ولاء ومعارضة، مسرحاً عظيماً لمثل هذه الهدايا النارية، خصوصاً أنها استحقت ان تكون كذلك بعد ان أدت دوراً في إبادة أرتال لا حصر لها من جيشه ودمرت عتاداً وصل ثمنه كما قال هو بنفسه الى 24 بليون دولار من خزينة شعبه. ولم تكن الفرق المافيوزية في أوروبا بعيدة عن مكارمه في توزيع المال والسلاح، أمثال الجيش الجمهوري الإرلندي وبادر ماينهوف الألمانية والبريجيتو الروسية.
كان واهماً من ظن ان الأخ العقيد معمر القذافي، سيواجه الثورة ضده، بموقف يشبه الموقف الذي اتخذه كل من الرئيس التونسي والرئيس المصري السابقين، لأنهما، بكل ما لديهما من أعراض السايكوباتية، لم يصلا الى عتو واستفحال وقوة الحالة التي يعاني منها صديقنا الأديب والشاعر الأخ العقيد، شفاه الله، ولهذا فهو اختار أن يبقى سادراً في قلب الظلام ولم يستجب نداء شعبه بالرحيل الآن، وليس أمامه إلا أن يواجه يوم قيامته الوشيك بالمثول كمجرم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، أسوة بصديقيه الحميمين ميلوشيفيتش وتشارلز تيلر، أو يلقى مصيراً اكثر مأسوية مثل أشباهه في الاستبداد وسوء المآل: هتلر وموسوليني وصدام وتشاوشيسكو وتومبلباي وصامويل دو.
* روائي ليبي

معلومة

يوري جاجارين

يوري ألكسيافيتش جاجارين (بالروسية:Юрий Алексеевич Гагарин) رائد فضاء سوفيتي (9 مارس 1934 - 27 مارس 1968) يعتبر جاجارين أول إنسان يتمكن من الطيران إلى الفضاء الخارجي والدوارن حول الأرض في 12-أبريل - 1961 على متن مركبة الفضاء السوفيتية

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Blogger Templates | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة